بدأت رحلة شيخنا الإمام محمد زكي إبراهيم رائد العشيرة المحمدية رحمه الله مع القرآن الكريم منذ صغره، فبدأ بحفظ القرآن الكريم مبكراً – كما ذكرت آنفاً - على يد الشيخ جاد الله عطية بمسجد السلطان أبي العلاء حيث كانت تقيم أسرته، وأتم حفظه عن ظهر قلب على يد الشيخ أحمد الشريف بمسجد سيدي معروف، وكان حينئذ بين التاسعة والعاشرة من عمره.
وفي الأزهر الشريف اعتنى بكتاب الله تعالى وتفاسيره وكتب إعرابه ومعانيه، وقراءاته، وعلومه بأنواعه وقد ظهر أثر ذلك واضحاً في حياته (خطابة وتدريساً وتأليفاً وفتوى وإرشاداً).
فقد كان مجلس درسه رحمه الله مليئاً بفرائد الفوائد القرآنية النادرة، قلما ذكر حادثة أو حكماً أو موعظة إلا ودليلها من كتاب الله تعالى في المقدمة، والكثير من دروسه هو شرح لآيات من كتاب الله تعالى، ولا أنس يوماً شرح في درسه سورة (الرحمن) آية آية، فبدأ بمعنى اسمه تعالى (الرحمن) وأنه جامع لصفات الجمال والجلال، ثم ذكر أسماء سورة الرحمن، ومنها أنها تسمى عروس القرآن، ثم عرج على قصة سيدنا عبد الله بن مسعود وجهره بآيات من سورة الرحمن على أهل الشرك وعبادة الأوثان، ثم انطلق في معاني آيات سورة الرحمن، وروى حديث الجن كلما سمعوا قول الحق (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فكانوا أحسن مردوداً من الإنس وقالوا: (لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد) .. إلى آخر ما في هذه السورة من معاني عظيمة جليلة.
وكنت تجد بين ثنايا دروس فضيلة الإمام الرائد من الفوائد العظيمة والمعاني الشاردة الجليلة، فشرح يوماً معنى قول الحق: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة) وأفاض في تاريخ البيت الحرام، ومعنى بكة ومكة ..إلخ.
ويوماً كان يشرح قول الحق تعالى: (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم) فكان مما قال: إن من رضي الله تعالى عنهم يلهمهم الإجابة فيقول أحدهم: غرني كرمك يا رب، ألا ترى أنه لم يقل: ما غرك بربك الجبار أو القهار أو المنتقم.
وقد تميزت الاحتفالات الدينية التي كان يقيمها رحمه الله بأصوات الشيوخ الأجلاء من الحفاظ المتقنين، أصحاب الأداء المميز، وهنا أذكر أول لقاء للقاريء الطبيب أحمد نعينع بالشيخ رحمه الله إذ بعد أن قرأ انطلق الشيخ يبين للحاضرين خفايا بعض أحكام التلاوة عند حفص، ويشرح بعض وجوه القراءات ما يبهر العقول.
وكان رحمه الله تعالى يحثُّ على المحافظة على الورد القرآني اليومي، وتفصيله:
- قراءة ما تيسر من القرآن يومياً ولو آيات قليلة، حتى يختم القرآن، ثم يبدأ فيه من جديد، وهذا شأن الحال المرتحل كما ورد في الحديث الشريف.
- قراءة سورة (الواقعة) بعد صلاة الفجر، و (الرحمن) بعد العصر، و (يـس) بعد المغرب، و (تبارك الملك) بعد العشاء، و (الدخان) ليلة الجمعة، و (الكهف) يوم الجمعة، وقد فصل دليل قراءة هذه السور وفضلها في كتابه (أصول الوصول) وفي غيره من كتبه رضي الله عنه.
- قراءة السور والآيات ذات الخصائص، والفضل العظيم، والأجر الكبير، مما ورد فيها أنها تعدل ثلث القرآن أو ربعه، كسورة الإخلاص، والكافرون، والزلزلة، وآية الكرسي، وخواتيم البقرة، ونحو ذلك.
فكلُّ هذا من السنن المؤكدة، والمستحبات، والفضائل، ممَّا هو ضروري للسالك إلى الله تعالى، المترقي في درجات الكمال، بعد محافظته على الفرائض والواجبات، وأدائها على أكمل وجه في أوقاتها، إذ لا بـد للسالك إلى الله من معرفة مراتب الأعمال، وأن يكون فقيهاً بالأولويات، عليماً بالضروريات، فلا يهتم بالفروع ويترك الأصول، ويقضي وقته في النوافل مع إهماله الواجبات، فيكون كمن يزين جداراً هشاً لا أساس له، يوشك أن ينهار، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وفضلاً عن اهتمام شيخنا رحمه الله بالقرآن في مجالس علمه، فقد كان رحمه الله كثير التلاوة له، يحث على مجالس تلاوته ومدارسته، فعمرت مساجده بالمجالس القرآنية تلاوة وتحفيظاً وتعليم أحكام، واهتم بالكتاتيب، وحث عليها.
وقد كتب عدة مؤلفات قيمة حول كتاب الله عزَّ وجل، منها:
- الإسكات بركات القرآن على الأحياء والأموات:وهو مطبوع، حول الأوراد القرآنية، ومعاني الاختيار والتفضيل بين السور والآيات وهو بحث نادر، وخصائص القرآن، وفضائل بعض سوره، وانتفاع الميت به، والتداوي والرقية والعلاج بالقرآن.
- حول معالم القرآن: وهو مطبوع، عبارة عن معلومات وحقائق لا يستغني عنها عالم ولا معلِّم ولا متعلم، وثقافة قرآنية أساسية، بمنهج علمي، مع ذكر الدليل، على طريقة تجمع بين الفقه والحديث.
- معارج البهاء الأقدس: لمحات من فقه المعرفة ودرس في التوحيد من سورة الإخلاص، وقد طبع مؤخراً، حول سورة الإخلاص وفضلها وما حوته من معاني التوحيد، جمعاً بين العقيدة والتفسير والتصوف، وعلى صغر حجم هذا الكتاب، فإن مادته العلمية متخصصة، وعبارته محققة موجزة.
- تفسير آيات مختارة من كتاب الله تعالى:كآيات البر من سورة البقرة، وأوائل سورة الإنسان، وغيرها، وهو ما زال مخطوطاً، أسأل الله تعالى أن يوفق لطباعته.
- لحظات التجلي:تفسير مختارات من سور القرآن، منها التوبة والحجرات، وقد فقد في حياة شيخنا رحمه الله عند نقل مكتبته كما أخبرني.
- بحوث في لغة القرآن: هي مجموعة من البحوث في مفردات القرآن وكلماته، وما فيها من إعجاز لغوي وتركيب فريد، وقد تطرق فيها لشيء من علوم القرآن الكريم، نشر بعض هذه البحوث بمجلة منبر الإسلام التي يصدرها المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وبعضها أذيع في برنامج ( لغة القرآن ).
- هذا، عدا الدراسات والبحوث والمقالات القرآنية المتناثرة بالمجلات الإسلامية، وفي مجلته (المسلم)، والتي أخص بالذكر منها بحثاً نادراً عن التفسير الإشاري وتفاسير السادة الصوفية، وقد اتخذته عمدة في رسالتي (التفسير الإشاري للقرآن، دراسة علمية تأصيلية)، وله بحث قيم في التداوي بالقرآن.
- ومما ينبغي أن يذكر -في مجال ذكر الفضل لأهله- أنَّ شيخنا رحمه الله كان من أول من نادوا بتسجيل القرآن الكريم برواية الدوري وبقية القراءات، وهذا مسجل في مجلة المسلم في وقته، وقد كان الأستاذ لبيب السعيد وكيل عام وزارة الأوقاف وأمين العشيرة المحمدية الثقافي وقتها هو أول من سجل تلاوة القرآن على أسطوانات.